لماذا لا تنجح الشركات بتقديم تجارب استثنائية
المهند السبيعي
لماذا لا تنجح الشركات بتقديم تجارب استثنائية
تمهيد:
تجربة العميل مسؤولية تقع على عاتق الجميع (الحقيقة التي تجهلها أو تتجاهلها العديد من الشركات) فتلقي بكامل المسؤولية على إدارة واحدة وتستغرب من فشل مبادرات هذه الإدارة ومن تسرب كفاءاتها بشكل مستمر دون أن تقف لوهلة وتتسائل عن منبع المشكلة الحقيقي. هذا المقال موجه للشركات التي أسست مؤخرا قسم خاص لتجربة العميل، أو تنوي تأسيسيه قريبا…
نشأة المجال:
لا يوجد تاريخ محدد ومتوافق عليه لنشأة المجال إلا أن الأطروحات حوله بدأت بالانتشار في بداية التسعينيات وأصبحت في أوجها في القرن الحادي والعشرين تزامنا مع تغيير دينماكية الاستهلاك وبسبب تكرار ذكر (تجربة العميل) من قبل مؤسسي وقادة أكبر الشركات على أنها سر من أسرار النجاح.
تشعبات المجال:
تشعب عن المجال اختصاصات دقيقة فرعية وهذا طبيعي بسبب تعدد التجارب التي يخوضها الإنسان وبسبب اختلاف طبيعة التفاعل من صناعة لأخرى، من هذه التخصصات الفرعية: (تجربة المواطن، تجربة المريض، تجربة المشاهد، تجربة السائح/الزائر، تجربة المستخدم، تجربة الطالب …. وهلمجرا) وأصبح لكل تخصص دقيق أطروحات علمية تخصه وإن كانت جميعها تستقي من نفس المبادئ العامة للتخصص الأم.
اعتمادية المجال على العلوم الأخرى:
حقيقة: لا توجد ممارسات أو أطر عمل مقبولة ومتوافق عليها من جميع الممارسين كما هو الحال مع إدارة المشاريع كمثال. وكل الممارسين دخلوه من خلفيات متنوعة (بمعنى أنه لا يوجد ممارس يعمل في المجال حاليا وهو حامل لشهادة بكالوريوس في تجربة العميل) التخصص غير متاح حتى الآن على مستوى البكالوريوس إلا أنه بدأ بالانتشار على مستوى درجة الماجستير.
مجال تجربة العميل هجين في تركيبته ويستقي مبادئه وممارسته من عدة علوم إدارية واجتماعية وما زال المجال قيد التطور والنمو بسبب تفجر المعارف وبسبب تداخله مع جميع إدارات الشركة (التي يؤثر أفرادها جميعا) بتجربة العميل بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا يجعل الخوض فيها تحدي كبير لاضطرار من يسلكه أن يوسع معارفه أفقيا في عدة مجالات، ولا شك أن الاكتشافات الخلاقة تلد من تقاطع الاختصاصات، يقول عالم الفيزياء الأمريكي جون أرتشيبالد ويلر (١٩١١ – ٢٠٠٨) : “القفزات العملية الكبيرة تأتي من صراع الأفكار، أكثر من تراكم الحقائق”
لماذا لا تنجح الشركات بتقديم تجارب استثنائية؟
بعد التمهيد الطويل (المتعمد) أبدأ بسرد بعض الأسباب على ضوء تجربتي الشخصية فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي، وترتيبها لا معنى له وإنما كانت أسباب خطرت على بالي عندما طرحت السؤال، فهي ليست أيضا على سبيل الحصر:
1- الخلل بالنية (الغاية)
“الرغبة في بناء شيءٍ ما لتحقيق نجاح شخصي هي تجربة جيّدة لكنّها محدودة التأثير بطبيعة النيّة وآنيّتها.. بينما الرغبة في إحداث تأثير إنسانيّ إيجابي يعني تردد هذا الصدى لوقتٍ طويل يتعدى وقتك الشخصي” [1].. النوايا تصنع المعنى في التجربة.
إذا كانت النية متخذ القرار ركوب الموجة لا أكثر، أو (الهياط) والتفاخر ، أو كانت نيته تأكيد افتراضاته المسبقة بخصوص مكامن الفشل (ليثبت لمجلس الإدارة صحة كلامه “دافع شخصي” لتحقيق الذات دون رغبة بإحداث تغيير) فهكذا نوع من النوايا لا ينبت إلا نكدا.
2- الشركة غير جادة في إحداث تغيير حقيقي وملموس
العديد من الشركات ركبت الموجة (Trend) أو موضة هبّت بها الشركات وتسابقت لتقليدها دون وعي ومعرفة بما هي مُقدمة عليه، مسألة افتتاح قسم لإدارة تجربة العميل فقط لأنها رائجة هذه الأيام لن يغير شيئا في مستوى الخدمة وكما قال آينشتاين، “الجنون أن تقوم بفعل الشيء بالطريقة نفسها وتتوقع نتائج مختلفة” … لن يتغير شيء إن كان افتتاح هذه الإدارة فقط من أجل افتتاحها وليس من أجل إجراء تغييرات حقيقة وإحداث تحول جذري في مستوى الخدمة.
3- الشركة لا تعي بأن مسؤولية تجربة العميل تقع على عاتق الجميع
افتتاح قسم أو إدارة يحمل هذا العنوان (تجربة العميل) لن يؤدي لأي تغيير ملموس على المدى القريب، فهي ليست مسؤولية يتم إسنادها إلى إدارة أو مسؤول تنفيذي واحد، تجربة العميل هي مسؤولية الشركة بأكملها من أعلى الهرم (وتحديدا الرئيس التنفيذي) وحتى أسفل الهرم.
4- الشركة جادة في التغيير لكنها اختارت الأشخاص الخطأ
هنالك جدارات ومهارات شخصية لا يمكنك التهاون بأهيمتها والتغافل عن ضرورة توفرها لدى الأشخاص الذين سيعملون في هذه الإدارة. في مقال آخر بعنوان: لو كانت تجربة العميل فتاة لتزوجتها أسهبت وفصلت في الجدارات والسمات الشخصية.
5- الشركة أحضرت قامة في المجال لكنه لم يفلح بإحداث تغيير
اعتمادية مجال تجربة العميل على العديد من التخصصات تعني باختصار بأنه لا تجد شخص على وجه المعمورة يحيط يجميع أبعاد المجال وتفرعاته لا بالجانب النظري ولا بالعملي: فهل يمكن أن تجد شخصا ما عمل لسنتين في إدارة المشاريع وسنتين في الأبحاث التسويقية وسنتين في استراتيجية الشركة وسنتين في إدارة التغيير (الثقافة) وسنتين في مركز خدمة العملاء ومعالجة الشكاوى وسنتين في إدارة الحوكمة وسنتين في تقنية المعلومات وسنتين وسنتين …. وقرأ ما لا يقل عن 10 كتب تأسيسية في المجال؟ … يستحيل ذلك.
تذكرت مدرسة أبو حنيفة الفقهية حيث كانوا يتباحثون في بعض المسائل الفقهية لإصدار فتوى متعلقة بها والمتميز بهذه المدرسة بأن أبو حنيفة كان يجمع فيها ثلة من المتخصصين في مجالات مختلفة ليدلي كلا بدلوه ويتوصلوا بشكل جماعي لأرجح فتوى للمسائل التي يناقشوها … ولأن الحكم على الشيء جزء من تصوره (قاعدة فقهية) تأتي أهمية وجود فرق (Cross-functional) تساهم في إحداث التغيير بدلا من الاعتمادية المطلقة على إدارة واحدة،
حتى لو نجحت في استقطاب أعلم شخص بالأرض في المجال فلا يعني ذلك مطلقا أنه سيكون لديه عصا موسى ليضرب بها ولا مصباح علاء الدين ليفركه فيخرج المارد ويحقق أمانيه، وتأكد بأنه لم يرث خاتم سليمان من أحد أجداده ليسخر به الجن … كن واقعيا.
جيف بيزوس قام باستقطاب لاري تيسلر (Larry Tesler) أعظم متخصص في مجال تفاعل الإنسان مع الكمبيوتر، ثم استقال لاري بعد ثلاث سنوات لأن جيف لم يسمع الكثير من توجيهاته. أحيانا تكون المشكلة من رأس الهرم فهو يوظف أشخاص أذكياء لكنه لا يريهم إلا ما يرى.
6- الشركة اختارت الأشخاص المناسبين لكن الهرمية كانت مُكَّبلة
أحيانا ستجد في بعض الشركات أفراد أو فرق قوية لكن موقعها في الهرمية الإدارية كبلها وحرم الشركة من تحقيق أقصى استفادة ممكنة منهم، ورغم أنه لا يوجد قاعدة عامة في أفضل موقع لهذه الإدارة إلا أن ما هو مؤكد هو أنها يجب أن تكون في سياق حيادي ومُمَّكن بالصلاحيات والسلطة، حيادي من حيث عدم مقدرة أي إدارة أخرى من التأثير على قراراتهم ومُمَّكن من حيث قدرتهم على التحدث عن مشاكل أي إدارة دون أي محسوبيات أو اعتبارات …
فهل يعقل مثلا أن يكون قسم تجربة العميل تحت إدارة العمليات ليكون مدير إدارة العمليات هو الخصم والحكم بنفس الوقت؟ ونفس الكلام ينطبق على أن يكونوا تحت إدارة التسويق لأنهم لن ينجحوا بتقليص الفجوة بين وعد العلامة التجارية وبين التجربة المقدمة على أرض الواقع.
الشيء بالشيء يذكر، تأثير المنظمة ليس فقط بهرميتها وإنما أيضا يثقافتها فانتشار ثقافة كثقافة الجزر المنعزلة (أيضا تسمى الصوامع المؤسسية) “Orgnizational silos” يجعل من تحقيق أي تغير ملموس في تجربة العميل أمرا في غاية الصعوبة.
7- الشركة تعتمد بشكل كبير على مستشارين خارجيين
تماما كالتجربة اليابانية في الإدارة، عندما تم تطبيقها بحذافيرها في دول أخرى لم تنجح وذلك لاعتبارات ثقافية، وهذا ما سيحدث تمام عندما تعتمد على أفضل الممارسات التي يقدمها لك المستشارون والتي غالبا ما يقتبسون منها وهي التي قد حدثت في دولة أخرى (ثقافة مختلفة وسياق مختلفة كليا) …
لو افترضنا أن لديهم الحل (إطار عمل متكامل) فصدقني; السنوات التي قضتها هذه الشركات للوصول إلى حلول عملية لن يمنحوك إياها على طبق من ذهب. بناء على تجربتي الشخصية (ولا يمكن تعميمها على جميع الشركات الاستشارية) المستشار يعطيك جزء من الحل حتى تبقى متعلقا به، فهو سيعطيك السمك تدريجيا لكن لن يعلمك أن تصيد بنفسك مطلقا.
في الختام:
لسان الحال أبلغ من لسان المقال. إن إحداث تغيير حقيقي في التجربة المقدمة للعملاء يتطلب جهودا جماعية من جميع أفراد الشركة ويتطلب تبني من أعلى الهرم لأسفله لثقافة التمحور حول العميل، أتأمل من القراء مشاركة أسباب أخرى أو مناقشة الأسباب التي ذكرتها أعلاه من منظورهم الشخصي لإثراء المقال.
—————————————————————
*إفصاح: الآراء الواردة في هذا المقال شخصية ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر جهة العمل التي أنتمي إليها.
أقرأ أيضا:
مستقبل مراكز الخدمة الحكومية في عالمنا العربي